- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2016-01-21
فيما تمر تونس بالذكرى الخامسة لانطلاق ثورتها، يعود السؤال بإلحاح عن حصيلة هذا الحراك الاستثنائي الذي هز أركان النظام وامتد كالنار في الهشيم في كامل المنطقة العربية. فماذا حققت الثورة للمنتفضين الذين طالبوا بالتشغيل والحرية والكرامة، وما هي التحولات التي أحدثتها بينما ارتدادات بلدان الجوار أعادت بشكل دموي الاعتبار للسياسات الأمنية؟ وما هي مآلات الحراك، وهل انحسر الزخم وتبدد الحلم وتراجع التسيس على مذبح ما يعتبره العديد من الملاحظين تسوية فوقية أبرمت بين جزء من الحرس القديم وحزب النهضة الإسلامي الذي قايض شراكته الهامشية في السلطة بمصالحة مع الدولة العميقة؟
لا شك أنّ الادّعاء اليوم بإمكانية تقديم إجابات قطعية عن كل هذه الأسئلة لا معنى له. ليس فقط لأن استشراف نتائج موجة الصدمة التي أحدثتها الثورة في تونس والمنطقة العربية بأكملها يحتاج إلى مسافة تاريخية لا تقاس بخمس سنوات، ولكن وأيضا، لأن الأبعاد الإقليمية للاضطرابات التي تحكم المنطقة مفتوحة على احتمالات متعددة.. لا تستثني مزيدا من "البربرية".
لا شك أنّ الادّعاء اليوم بإمكانية تقديم إجابات قطعية عن كل هذه الأسئلة لا معنى له. ليس فقط لأن استشراف نتائج موجة الصدمة التي أحدثتها الثورة في تونس والمنطقة العربية بأكملها يحتاج إلى مسافة تاريخية لا تقاس بخمس سنوات، ولكن وأيضا، لأن الأبعاد الإقليمية للاضطرابات التي تحكم المنطقة مفتوحة على احتمالات متعددة.. لا تستثني مزيدا من "البربرية".
وحتى لا نضيع في التحاليل الجيوستراتيجية التي كثيرا ما تختزل الصراع الجاري في نزاع مباشر وعبر الوكلاء بين القوى العالمية ورديفاتها الإقليمية، يقصي أي اعتبار للقوى الاجتماعية الداخلية، فإنّ التوقف على بعض من الديناميات المحلية من شأنه أن يضيء بعضا من تعقيدات المشهد وينير حقيقة المد والجزر الذي يحكمه.
رصد الديناميات: القصرين مثالاً
لعل ولاية القصرين، الواقعة في الوسط الغربي على الحدود مع الجزائر على بعد 290 كلم من العاصمة، هي إحدى الساحات المحلية الجديرة بالاهتمام للوقوف على ذلك. لعبت "قصرين مدينة الشهداء" كما أطلق عليها إبان سقوط بن علي، والتي شهدت سنة 1912 أول انتفاضة ضد الاستعمار الفرنسي، دورا محوريا في الحراك الثوري منذ خمس سنوات، ليس فحسب لأنها شكلت الحاضنة الثانية للثورة، مفككة من ثَمّ الحصار الذي كان نظام بن علي قد ضربه على ولاية سيدي بوزيد، موطئ قدم الثورة الأول، في محاولة منه لخنقها، بل كذلك لأنّ القصرين، على الرغم من عدد شهدائها وجرحاها، والآلة القمعية الهائلة التي حشدت لإسكاتها، فقد انخرط شباب ونساء أحيائها الشعبية في الحراك ومكنوا الثورة من العبور إلى ولاية تونس الكبرى.
قبل الثورة، لم يكن حال القصرين يختلف في جوهره عن حال سيدي بوزيد: نسب نمو اقتصادي ضعيفة، تهميش سياسي واجتماعي، بطالة شبابية مستفحلة، ضعف فادح في الاستثمار العمومي والخاص، بنى تحتية غائبة ومهترئة، أراض فلاحية "اشتراكية" لم تتكفل الدولة بعناء تقسيمها على مالكيها من الفلاحين الصغار، ولا يمكن الاستفادة منها، علاوة على سياسات ضبط ورقابة سلطوية قوامها ردع الأغلبية والاستقواء بأقلية عبر شبكات المحسوبية والفساد. أضف إلى ذلك، تجارة تهريب منظمة بحكم موقع القصرين الحدودي، عمادها تواطؤ أمني، تدر الأموال الطائلة على العائلة الحاكمة والمقربين منها وتتيح الفتات لبعض الفقراء والمهمشين.
ماذا تغير بعد خمس سنوات شهدت تعاقبا للعديد من الحكومات وتبني الدستور وانتخاب أول برلمان بشكل ديموقراطي الخ...؟ بعض الإجابات تقدمها دراسة ميدانية سوسيولوجية حديثة تمت في القصرين، تناولت عينة واسعة من السكان من أبناء المجتمع الأصلي، تناولت خصائصهم الاجتماعية والاقتصادية وتمثلاتهم للوضع الأمني في منطقتهم باعتبار انتشار مجموعات سلفية جهادية مسلحة في الجبال المحاذية للولاية وانتظام هجماتها على قوى الأمن. لن أستعرض هنا كل نتائجها، بل سأكتفي بتقديم بعض المؤشرات، وأولها يتعلق باستمرار الهشاشة والعطب، باعتبارها السمة الأساسية التي تميز سواد السكان في القصرين. ففي هذه الولاية، وعلى الرغم من كل ما يحكى عن نسب التعليم العالية في تونس، لا زال أكثر من ثلث السكان يرزح تحت الأمية، ولا زال الانقطاع المبكرعن التعليم يعصف بنصفهم مسجلا نسبة هي الأعلى في البلاد. وعلى ذلك، فنصف سكان القصرين غير عاملين، بينما يندرج عمل 20 في المئة ممن يعمل منهم في إطار غير مرخص به، كما أن قرابة ثلثي السكان لا يتمتعون بنظام التأمينات الاجتماعية، وأغلبهم غير راضٍ عن الخدمات الصحية والتعليمية والإدارية في الولاية. والقطاع العام هو المشغل الأضعف في الولاية، وهو ما يعكس استمرار غياب بدائل اجتماعية واقتصادية تنموية عمومية يمكنها أن تقطع مع وضعية الفقر والتهميش للسكان وتحقق انتظاراتهم التي صدحوا بها ذات كانون الثاني/ يناير 2011، ومات من أجلها الكثيرون في القصرين.
الأمن أم الأمان؟
استمرار العطب والتهميش في القصرين وغياب فرص التشغيل للسواد الأعظم من الشباب أبقى على ما يسمى بـ "تجارة الحد" أو التهريب، كملاذ أخير للعيش والارتزاق لفئات واسعة منهم. لكن يبدو أن هذا الملاذ الأخير نفسه قد أضحى صعب المنال، وشديد الخطورة لمن هم الأكثر تهميشا وفقراً، بفعل الحاجز الذي أقامته الجزائر على جانبها من الحدود، وأيضا لتدهور الوضع الأمني في الولاية من الجانب التونسي، وما رافق ذلك من استحكام المقاربة الأمنية وحدها في مواجهة المجموعات الجهادية المسلحة، من دون استناد إلى معالجة شاملة للوضع تقوم على إشراك المواطنين في القرار المتعلق بالأمن والحدود يأخذ بالاعتبار مطالبهم وأولوياتهم.
هل تعني هذه الصورة القاتمة أن القصرين قد رجعت إلى المربع الأول في أتون غياب البدائل الاجتماعية وعودة سطوة الأولويات الأمنية؟ آليات التهميش التي حكمت أداء دولة ما بعد الاستقلال في تونس في علاقتها مع مناطق عديدة، غابت فيها لعقود الدولة الاجتماعية وحضرت فيها بقوة الدولة الأمنية، وهي لا زالت فاعلة في القصرين كما في غيرها من "الهوامش"، بعد خمس سنوات على سقوط بن علي. ولا شك أيضا أنّ تواتر الهجمات السلفية الجهادية قد لعب دورا في تقليص مساحات الفعل لأجل تقويض هذه الوضعية.
لكن وعلى الرغم من ذلك، فما زالت شروط العمل من أجل تغيير هذا الوضع أحسن مما كانت عليه قبل سقوط بن علي. مرد هذا التحسن كما تفيد به الدراسة في القصرين يعود إلى سببين، الأول أنّه ومع وجود الشعور المتدني لسكانها بالأمان، فإنّ أغلبهم لا زال غير قابل بعد للتخلي عن حريته مقابل أمنه، على اعتبار أن أكثرهم يعتقد أنه من شروط تحسين علاقة المواطن بالأمن هو إرساء منظومة لمكافحة الفساد وترسيخ احترام حقوق الانسان. أما السبب الثاني فيرجع الٍى اعتقاد سائد في القصرين لا يختزل الأمن في التصدي للإرهاب والجريمة فقط، بل ينظر له ضمن مقاربة شاملة تدمج كذلك المقومات الاجتماعية والاقتصادية الضامنة لشعور المواطن بالأمان.
لكن وعلى الرغم من ذلك، فما زالت شروط العمل من أجل تغيير هذا الوضع أحسن مما كانت عليه قبل سقوط بن علي. مرد هذا التحسن كما تفيد به الدراسة في القصرين يعود إلى سببين، الأول أنّه ومع وجود الشعور المتدني لسكانها بالأمان، فإنّ أغلبهم لا زال غير قابل بعد للتخلي عن حريته مقابل أمنه، على اعتبار أن أكثرهم يعتقد أنه من شروط تحسين علاقة المواطن بالأمن هو إرساء منظومة لمكافحة الفساد وترسيخ احترام حقوق الانسان. أما السبب الثاني فيرجع الٍى اعتقاد سائد في القصرين لا يختزل الأمن في التصدي للإرهاب والجريمة فقط، بل ينظر له ضمن مقاربة شاملة تدمج كذلك المقومات الاجتماعية والاقتصادية الضامنة لشعور المواطن بالأمان.
ناشطون عديدون في المجتمع المدني المحلي والوطني ما زالوا يراهنون ويعملون حتى لا ترجع القصرين إلى المربع الأول. من بينهم "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" الذي تقدم مؤخرا باسم ولاية القصرين بملف الٍى الهيئة العليا للعدالة الانتقالية لطلب منح القصرين صفة "المنطقة الضحية" على خلفية تعرضها للتهميش والإقصاء الممنهج قبل الثورة. خطوة ستمكّن لأول مرة من إدراج المسألة الاقتصادية والاجتماعية في مسار العدالة الانتقالية.
* باحثة في العلوم السياسية، مديرة مكتب International Alert، من تونس