- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2016-01-30
تجاوزت الوقائع الحديث عن سوء الأداء في إدارة الشأن الفلسطيني لتصل إلى ضرورة إصلاح النظام السياسي برمته
تلقي الانتفاضة المزيد من الضوء على المعضلات التي تعاينها الحالة الفلسطينية، والتي ترتد سلبا على الانتفاضة ذاتها فتحرمها من مقومات تكفل تقدمها وتطورها وتوفر لها الحماية.
وعندما تزمن هذه المعضلات، على الرغم من تظهير خطر استمرارها على المشروع الفلسطيني التحرري، فإن هذا يعني على الأقل أن مكونات الحالة الفلسطينية فشلت، حتى الآن، في جعل المصلحة الوطنية العليا خطا احمر يضبط الأداء السياسي والميداني لهذه المكونات.
المعضلات الفلسطينية لا تبدأ بالانقسام ولا تنتهي به، وحول كل منها اتخذت مؤسسات وحوارات وطنية عدة قرارات تكفل حلها، لكنها لم تجد طريقها للتنفيذ مما جعل الحديث مشروعا عن مقدار العطب الكبير الذي أصاب النظام السياسي الفلسطيني برمته.
ارتبطت مرحلة النهوض التحرري الفلسطيني بتوحيد البرنامج الوطني والإجماع حوله في إطار منظمة التحرير الائتلافية. وعلى الرغم من التباينات الكثيرة ما بين القوى والفصائل إلا أن هذه التباينات انضبطت بالعموم وفق القواسم المشتركة بين الجميع؛ ربطا بالاستحقاقات التي تفرضها مهام حركة التحرر الوطني. ومع تعدد جبهات الكفاح الفلسطيني وتكاملها باتت الحالة الفلسطينية طرفا مهما وأساسيا في المعادلة الإقليمية وبذلك تم انتزاع الاعتراف الدولي بحقوق الشعب الفلسطيني وجهة تمثيله. ومع ذلك، لم تخل تلك الفترة من صراعات وخلافات بين مكونات العمل الوطني، إلا أن احتدام الصراع مع العدو الإسرائيلي على الأرض فرض نفسه في ضبط العلاقات الفلسطينية الداخلية تحت سقف وحدة المواجهة. والمحطات التي تؤكد ذلك أكثر من أن تحصى.
بدأت المشكلات الفلسطينية تتحول إلى معضلات جدية مع نشوء تفرعات في مسار العمل الوطني شقها الرهان على إيجاد تسوية للصراع خارج إطار محددات البرنامج الوطني التحرري. وشكلت أسس المشاركة في مؤتمر مدريد وما تفرع عنها العتبة التي أدخلت الحالة الفلسطينية إلى حلبة تجاذبات وخلافات غير مسبوقة. وكان هذا الأمر أخطر ما مثلته سياسة الهيمنة على منظمة التحرير والاستفراد بقرارها.
ذلك التوجه، والذي أصبح مسارا خطيرا في العمل السياسي الفلسطيني «الرسمي»، وجه ضربة كبيرة إلى أحد أهم آليات العمل الوطني الفلسطيني وهو مبدأ الشراكة السياسية في اتخاذ القرار الوطني، كما هي الشراكة في ميدان المواجهة.
منذ تلك الفترة، ومع استمرار خرق قواعد العمل الائتلافي، تناسلت المشكلات الفلسطينية وتحولت معضلات مع الإيغال في سياسة الرهان على تسوية سياسية «عادلة» عبر البوابة الأميركية من خلال مفاوضات وضعت القضية الفلسطينية أمام خطر التصفية؛ بعد أن أحكم اتفاق أوسلو قيوده الأمنية والاقتصادية والسياسية على الحالة الفلسطينية.
ومع قيام السلطة الفلسطينية هُمشت منظمة التحرير وتآكل دور مؤسساتها بدءا من المجلس الوطني وصولا إلى اللجنة التنفيذية. ومورست تجاه المنظمة سياسة استحضارية لتشريع قرارات وسياسات خارج الإجماع الوطني وباتت «الأغلبية العددية» الناتجة عن واقع الهيمنة بديلا عن «الأغلبية السياسية» التي تفترضها قواعد العمل الوطني التحرري.
مع الإعلان الأول لفشل عملية التسوية صيف العام 2000، واستنكاف إسرائيل عن التقيد بمدة الفترة الانتقالية التي انتهت في أيار /مايو 1999، اندلعت انتفاضة الاستقلال مما جعل الإدارة الأميركية برئاسة بوش الابن تستدير مجددا نحو ملف الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني وفق القواعد ذاتها. وفيما كان المنتفضون يريدون إعادة العمل الوطني الفلسطيني إلى أسسه وآلياته الصحيحة ، كان المفاوض الفلسطيني يستخدم ما يجري على الأرض لاستكمال مسار الرهان على التسوية. وتكرر مسلسل الفشل ولا يزال.
ومنذ أن وقع الانقسام، فشلت الحالة الفلسطينية في وضع حد له وإنهائه على الرغم من الجلسات المتعاقبة للحوارات الوطنية الشاملة ومعها رزمة من الاتفاقات الثنائية بين حركتي فتح وحماس؛ اللتين من الواضح أنهما لا تملكان الإرادة السياسية لاستعادة الوحدة بعيدا عن حسابات كل منها الجهوية. وبذلك شكل الانقسام وتداعياته أخطر امتحان فشلت في تجاوزه الحالة الفلسطينية، وهذا مؤشر اضافي على ضعف النظام السياسي الفلسطيني.
لم يخل المشهد السياسي خلال السنوات الماضية من مؤشرات التفاؤل. أحدها يتعلق بالمسعى الفلسطيني نحو الأمم المتحدة والذي نجح ـ بعد تردد ــ وتأخير من استصدار قرارات أممية هامة أبرزها الاعتراف بفلسطين دولة تحت الاحتلال وترقية وضعها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقبول عضويتها في عدد واسع من مؤسساتها.
والمؤشر الثاني مثلته قرارات المجلس المركزي الفلسطيني وأهمها تصويب العلاقة مع الاحتلال عبر وقف التنسيق الأمني معه وإرساء التسوية السياسية وفق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وإعادة الاعتبار للانفتاح نحو المجتمع الدولي واستكمال الانتساب إلى مؤسسات الأمم المتحدة على طريق محاسبة إسرائيل على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني.
كلا المؤشرين توقفا. أحدهما في منتصف الطريق من خلال تردد القيادة الرسمية الفلسطينية في مقارعة الاحتلال في مؤسسات الأمم المتحدة نزولا عند الضغوط الأميركية والإسرائيلية، فيما بقيت قرارات «المركزي» حبرا على ورق مع أنها ـ كما هو مفترض ـ ملزمة ويجب تنفيذها.
والأخطر من ذلك، أن ما يجري على الأرض يسير بعكس هذه القرارات .ذلك ما أعلنه على الأقل مدير المخابرات الفلسطينية مؤخرا والذي صرح علنا بأن الأجهزة الأمنية الفلسطينية أوقفت مئة فلسطيني بـ«تهمة» الإعداد لعمليات ضد الاحتلال، وبأن هذه الأجهزة منعت تنفيذ 200 عملية ضده.
والسؤال؛ مقابل ماذا؟. الكل يعرف أن عملية التسوية في حالة موت سريري. كما أن حكومة نتنياهو أعلنت كثيرا أن ما يمكن تقديمه من تسهيلات للفلسطينيين لن يتجاوز عناوين مشروع نتنياهو حول «السلام الاقتصادي» دون الاقتراب من أية قرارات أو إجراءات تمس الاستيطان أو تمنع القتل والاعتقال عن رقاب الفلسطينيين، وهو مشهد يتكرر يوميا في الوقت الذي تتوالى فيه تصريحات مسؤولي السلطة الفلسطينية عن تمسكهم بالتنسيق الأمني مع الاحتلال.
المسألة تجاوزت بكثير الحديث عن سوء الأداء في إدارة الشأن الفلسطيني لتصل إلى ضرورة إصلاح النظام السياسي برمته.. استحقاق برسم الحالة الفلسطينية، سياسيا وشعبيا.