خسر الشعب السوداني حسن الترابي أحد أبرز قياداته السياسية والفكرية على المستوى العربي ، مثلما خسرته صديقاً غير عادي ، حيث تطورت العلاقة بيننا منذ بداية التسعينيات حينما كنت برفقة الرئيس الراحل ياسر عرفات في زيارة عمل للخرطوم ، ما وفر لي فرصة التعرف عن قرب على قيادات الصف الأول لثورة الانقاذ الوطني السودانية ، من الرئيس عمر البشير إلى عبد الرحيم حسين ، وعلي عثمان محمد طه ، ومهدي إبراهيم ، وغازي صلاح الدين ، ومحمد الأمين خليفة ، ومصطفى عثمان ، ونافع علي نافع ، وكبار السن إبراهيم السنوسي وياسين عمر الامام .
لقد أدرك حسن الترابي حجم الضرر الذي وقع على العرب بسبب نتائج الحرب الباردة 1990 ، بانتصار المعسكر الأميركي وهزيمة السوفييت ، ونتائج حرب الخليج المدمرة التي أدت إلى هزيمة العراق وخرابه وحصاره عام 1991 ، فعمل على فهم تلك المعطيات ، والتصدي لنتائجها عبر محاولة إنقاذ السودان من تلك الحصيلة المدمرة ، على المستوى القومي .
فعمل على وصل العلاقة بين فصائل التيار الاسلامي وفصائل التيار القومي ، وكانت فكرته بولادة المؤتمر الشعبي العربي والاسلامي ، التي انبثقت على أثر اجتماع مشترك لوفد شعبي يمني للسودان ، وصدر بيان يدعو لذلك يوم 28 / شباط / 1991 ، في نفس يوم توقف الحرب على العراق ، وعليه تم الدعوة لعقد المؤتمر التأسيسي الأول في الخرطوم من 25 – 28 نيسان 1991 ، وحضره الرئيس أبو عمار على رأس وفد فلسطيني رفيع المستوى ، وشخصيات قيادية من قاضي حسين من الباكستان ، لقلب الدين حكمتيار من أفغانستان ، إلى راشد الغنوشي من تونس ، وعباس مدني من الجزائر ، وإبراهيم شكري من مصر ، ومحمد عبد الرحمن خليفة وسليمان عرار وعزمي الخواجا من الأردن ، وسعد قاسم حمودي من العراق ، ومن على منصة المؤتمر أعلن الراحل جورج حبش بضرورة “ ازالة المعيقات من أمام القوة الجديدة في بلدان العالم الثالث ، إنها التحالف العربي الاسلامي ، هذا التيار الجماهيري الصاعد ، الذي رمى بثقله إلى الشارع يومياً أثناء حرب الخليج ، هو الذي يملك القدرة والامكانية والتطلع لرفض الهيمنة والتبعية وانتزاع الحرية والاستقلال والديمقراطية “ .
أما نايف حواتمة فقد أدرك ببعد نظره أهمية المؤتمر فقال “ السودان سيضيف لنفسه متاعب جديدة وسيدفع ثمن عقد هذا المؤتمر على أرضه ، فكما دفع ثمن قمة اللاءات الثلاث في الخرطوم عام 1967 ، فسيدفع اليوم وغداً ثمن ولادة جديدة على أرضه ، إنه ثمن الانحياز العربي الاسلامي لفلسطين والقدس والديمقراطية “ .
حسن الترابي كان صاحب الفكرة والمشروع بهدف توفير مظلة لتطلعاته نحو سودان قوي صاعد له إمتدادات مؤثرة لدى العالمين العربي والإسلامي ، وأبو عمار أول من أثنى على الفكرة وعمل على إنجاحها وراهن عليها تعويضاً لخسارته الفادحة في فقدان المعسكر الاشتراكي والعراق ، خاصة وأن تحركات جيمس بيكر كانت في مهدها لعقد مؤتمر مدريد للسلام الذي دعا له جورج بوش في خطابه يوم 7 أذار 1991 ، في أعقاب حرب الخليج .
عملت مع الكبير حسن الترابي في أمانة المؤتمر ، أردنياً وعربياً في مساهمة لتخفيف الضغط والحصار السياسي عن السودان ، الذي وصفه أبو عمار أنه البلد العربي الوحيد الذي ما زال يفرش له البساط الأحمر ، وهكذا ولدت منظمة كفاحية عربية إسلامية معادية للإستعمار والتسلط والهيمنة الأميركية وعامل إسناد للشعب الفلسطيني ولإنتفاضته في ذلك الوقت ، وعلى رأسها وقادها حسن الترابي بقدوته وسعة أفقه وخبراته العميقة .
السودان في عهد الترابي اتخذ سياسة هجومية للدفاع عن النفس والتخلص من الأمراض المستعصية التي كادت تعصف بوحدة ترابه الوطني وتعيق حركته على الصعيدين الداخلي والخارجي ، فعلى الصعيد الداخلي اتخذ سلسلة من المبادرات التي تكفل ازالة معيقات وحدته الوطنية ، ففتح الحوار على مصراعيه مع المعارضة المسلحة في الجنوب ، وأعلن قيام النظام الفدرالي بين الولايات والمحافظات يتيح لكل الفئات السودانية التعبير عن مكونات وتشكيل ذواتها الجهوية والقومية والدينية في إطار وحدة الوطن وتوازن توجهاته ، ونزع بذلك فتيل المواجهة والصدام وأرسى إمكانات التعاون وتوسيع القاعدة الاجتماعية والسياسية لنظام “ الانقاذ الوطني “ ، وقد تجاوب الرئيس عمر البشير مع توجهات المؤتمر الشعبي العربي والاسلامي وأطلق سراح كافة المعتقلين السياسيين وعلى رأسهم الصادق المهدي زعيم حزب الأمة ، وإبراهيم نقد أمين عام الحزب الشيوعي السوداني ، ليؤكد بالملوس مصداقية توجهات النظام للسعي نحو حل مشاكله الداخلية ، والاسراع نحو ارساء أسس التنمية والنهوض بالسودان نحو المستقبل .
أزمة السودان ، مثلها مثل مصر والعراق وسوريا واليمن ، حيث الفردية وحكم العسكر وضيق أفق النظام من جهة ، والضغوط والمؤثرات والتجويع من جهة أخرى ، وهي مشاكل لا تحل إلا بتوسيع قاعدة التحالف في إدارة النظام وتوسيع القاعدة الاجتماعية للحكم .
في إحدى زياراتي المتكررة للخرطوم ، كنت مع الرئيس عمر البشير في الطائرة العسكرية التي أقلته من الخرطوم إلى “ الضعين “ في ولاية دارفور في أقصى الغرب الجنوبي على حدود جمهورية إفريقيا الوسطى ، كان ذلك في الاول من أذار عام 1992 ، وأمام العميد عبد الرحيم حسين عضو مجلس قيادة الثورة ووزير الداخلية أنذاك ، قلت للرئيس عمر البشير “ لو كان عبد الناصر ديمقراطياً يُؤمن بالتعددية لما حصل ما حصل ، ولبقيت مصر مركز التقدير والثقل وبؤرة صنع القرار “ وقلت عن العراق “ لقد وضع صدام حسين العراق على عتبات نادي الأقوياء وأصحاب القدرة النووية ، ولم يكن أقل من مصر حيوية ونفوذاً ، ولكن غياب التعددية وعدم المشاركة في مؤسسات صنع القرار أثر كثيراً وعميقاً في أداء العراق وشعبه ومؤسساته لمواجهة الكارثة والعدوان “ وقلت عن السودان “ لن تقل التحديات التي ستواجهكم عن تلك التي عصفت بمصر والعراق وسوريا ؟؟ .
تطور الأحداث جرى بشكل مغاير تماماً حيث اختلف الترابي مع البشير وتصادموا وضعفت جبهتهم الداخلية ورضخوا للإبتزاز ، فكانت الحصيلة تمزيق السودان وخروج جنوبه مستقلاً ، وها هو يواجه نفس المأزق الذي وقع فيه أقرانه من الضباط الوطنيين .
رحل الترابي فترك أثراً لن يُمحى ليس فقط على مستوى الأداء السياسي بل والفكري وفي ذلك كتاب تفسيري عصري للقرأن ، ولذلك ستبقى أثاره عميقة لدى تلاميذ كُثر يؤمنون بما ترك .

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف