لا تزال أصداء العمليتين الدمويتين اللتين ضربتا مطاراً ومحطة مترو في العاصمة البلجيكية بروكسل تتردد في وسائل الإعلام العربية والأجنبية، محللة ساعة ومستشرفة في أخرى، حتى وصل الأمر في بعض التقارير إلى البحث في أسباب توالد المتطرفين في بلجيكا بشكل عام وفي ضاحية مولنبيك بشكل خاص، حيث أعاد البعض الأسباب إلى إهمال السلطات البلجيكية لهذه الضاحية، وقالوا إن البطالة تنتشر فيها بشكل كبير وغيرها من المعلومات التي تحمل المسؤولية للسلطات البلجيكية من حيث تنامي (الإرهاب)، وهو أمر سطحي لا ينحت في الجذور.
أما من ينتهجون نظرية المؤامرة فكانت لهم رؤاهم الخاصة تتعلق بالاتحاد الأوروبي وأزماته الداخلية، والبعض تحدث عن أعداد المسلمين الموجودين في بلجيكا، وهم قرابة ال700 ألف، والهدف من وراء التفجيرات هو التقليل من أعدادهم. وذهب البعض مذهباً عجيباً في اللحظات الأولى التي واكبت التفجيرات فألقى اللوم على اليهود، وأنهم وراء العمليات التي تهدف حسب رؤيتهم إلى دفع السلطات البلجيكية إلى طرد آلاف المسلمين من أراضيها، وآخرون ربطوا العمليات بالانتخابات الأمريكية القادمة، والبعض ربطه بالضغط باتجاه المشاركة الأوروبية في التحالف الدولي ضد (داعش)، وتحليلات لا تُحصى ولا تعد، معظمها بعيد عن الأسباب الحقيقية التي لا نجزم بمعرفتها.
نعم، بلجيكا دولة تحتضن عشرات الآلاف من المسلمين وتعترف بالدين الإسلامي، وتعطل العمل في عيدي الفطر والأضحى، وتشير بعض الإحصائيات إلى أن نصف سكان بلجيكا من المسلمين ومعظمهم من المغاربة. وتعمل السلطات البلجيكية على العناية بالمساجد وتعطي رواتب لأكثر من 250 إمام مسجد، وتتكفل الدولة بدفع رواتب مدرسي التربية الإسلامية، وكانت النتيجة أن التكفيريين استغلوا هذا الواقع، ونشروا دعواتهم المحرضة على الكراهية والتكفير وجواز قتل الآخرين، وأقاموا في أحد الأحياء (مولنبيك) قاعدة لتصدر التكفيريين إلى سوريا والعراق والمغرب العربي.
وتقول بعض الأرقام إن حي مولنبيك صدر أكثر من 500 شخص للقتال في صفوف (داعش) قتل بعضهم (77 شخصاً) وعاد بعضهم (130 شخصاً). وتقول التقارير إنه في حي «مولنبيك» ترعرع مخططو ومنفذو هجوم الجمعة الدامي في باريس كعبد الحميد أباعود وصلاح عبدالسلام، الذي ألقي القبض عليه أخيراً، وأيضا ترعرع أيوب الخزاني الذي نفذ هجوماً على القطار السريع الذي يربط بين أمستردام وباريس، كما مهدي نموش منفذ الهجوم على المتحف اليهودي في بروكسل. وعاش في الحي ذاته اثنان من مرتكبي تفجيرات مدريد، التي تسببت بمقتل 190 شخصاً عام 2004. وفي التاسع من سبتمبر عام 2001 قام اثنان من أبناء الحي باغتيال القيادي الأفغاني أحمد شاه مسعود الذي كان أبرز معارضي حركة طالبان في ذلك الوقت. وفككت السلطات البلجيكية عشرات الخلايا التي كانت تخطط لتنفيذ هجمات في أوروبا انطلاقاً من ضاحية «مولنبيك» أيضاً.
فهل كان ذنب السلطات البلجيكية في أنها احترمت الدين الإسلامي، وسمحت للإسلاميين في التحرك بحرية وإقامة شعائرهم؟ وهل كان ذنب بلجيكا أن تحتضن عشرات المساجد والأئمة ومدرسي التربية الإسلامية، ومارست التسامح في أبهى صوره، واستقبلت المسلمين وغير المسلمين العرب كمهاجرين وطالبي لجوء، ووفرت لهم الحياة الكريمة، ودفعت لهم رواتب وهم نائمون في بيوتهم لا يعملون؟ وكانت النتيجة أن خرج التكفيريون من ظهرانيهم وقتلوا الأبرياء في المطار، والذاهبين إلى أعمالهم في المترو وهم يصرخون (الله أكبر).
لقد كشفت العمليتان حقيقة تغلغل التكفيريين في المجتمع البلجيكي، وكان من الممكن أن يستمروا في بناء الخلايا النائمة ثم الظهور في الشوارع وإعلان (مولنبيك) إمارة إسلامية، عندها ستتحول هذه الضاحية كأي ضاحية في مدينة حلب أو حمص أو درعا أو تدمر في سوريا، أو الفلوجة أو الموصل في العراق، أو الزاوية وبنغازي ودرنة في ليبيا، ونرى الدمار والحرائق.
قد يقرأ أحد التكفيريين هذا الكلام ويقول: (ليته تحقق، هؤلاء الكفار يستحقون الموت)، بينما يكون هو قد ترعرع بين الكفار وتزوج وأنجب وأكل من طعامهم وشرب من شرابهم وتعلم أولاده في مدارسهم، وربما في فترة من الفترات تناول الكحول والمخدرات ودخل الملاهي الليلية وبيوت الدعارة، كما نقلت تقارير عن أحد مخططي هجوم باريس.
وهذا المنطق لا يعترفون به، إنما سيقولون إنها خيرات الله التي وعد بها المسلمين أو سخرها لهم.
وعودة إلى دوافع التفجيرين في بروكسل، فإنها تدخلنا مرة أخرى للبحث في أهداف «داعش» وأصولها، التي يمكن القول إنها في المجمل تسعى إلى خلق الفوضى في العالم، وليس في العالم العربي أو الإسلامي، الفوضى التي يعتقدون أنها سوف تبني المجتمع من جديد بعد أن يكفر الناس بالليبرالية الغربية والرأسمالية والاشتراكية وغيرها، وسيعودون إلى الإسلام كحل نهائي مطلق يقولون إن الله وعدهم بتحقيقه في السنوات التي تسبق نهاية العالم.
الفوضى هي الهدف المرحلي، وإلا ما معنى هذا الضرب في كل جهات الأرض، والقتل دون تمييز، وإقامة إمارة هنا وأخرى هناك، لتموت هذه الإمارة وتنشأ غيرها في مكان آخر، إنهم لا يسعون إلى إنشاء (دولة الإسلام أو دولة الخلافة)، لو كان هذا هدفهم لحصنوا الأراضي التي استولوا عليها، وهي تعد بعشرات الآلاف من الكيلومترات، وبنوا دولتهم، إلا أنهم ينتقلون متعمدين ليضربوا في كل مكان يتمكنون فيه من إيقاع أكبر عدد من الضحايا، للفت الانتباه وإشاعة الفوضى.
المحللون يلومون أوروبا وأمريكا لأنهم دعموا هذه الجماعات التكفيرية، واتخذوهم وسيلة لنشر (الفوضى الخلاقة) لإعادة تشكيل الشرق الأوسط من جديد، ويشمتون بهم الآن، لأن السحر انقلب على الساحر، كما يعتقدون، ويوجهون التهمة للولايات المتحدة صاحبة نظرية (الفوضى الخلاقة)، التي لا تزال حتى هذه اللحظة غير جادة في محاربة هؤلاء.
لقد انطلت على كثير من المفكرين بأن هذه المجموعات تتبنى فكراً متطرفاً، ولا بد من مواجهة هذا الفكر بنشر الفكر الوسطي للدين الإسلامي، وهي عملية تحمل في طياتها اعترافاً بأن هؤلاء مسلمين لكنهم يحملون فكراً متشدداً، بينما الحقيقة كما نعتقد، أن هؤلاء لا يمتون إلى الإسلام أو إلى أي دين آخر بصلة، لأن دينهم هو دين القتل وإشاعة الفوضى، أي الفكر الانتقامي الدموي الشيطاني، وهذا الفكر الذين يشيع الفوضى، حدث وأن اتفق مع (الفوضى الخلاقة) التي روجت لها كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، لإعادة تشكيل الوطن العربي جغرافياً وديمغرافياً. لكن السحر غالباً ما ينقلب على الساحر، حيث انقلب عليهم في أفغانستان، وها هي طالبان لا تزال تقاتل الحلفاء والحكومة الأفغانية، كما ينقلب حالياً عليهم في الشرق الأوسط ووصلت تردداته إلى عواصمهم، باستثناء نيويورك وواشنطن دي سي.
وإن كان من حكمة يمكن الوصول إليها بعد كل هذا، يمكننا القول: (لا تصادق الأفعى)، أي لا تعول على شاب طائش ينقلب بين عشية وضحاها من تاجر خمور ومدمن مخدرات إلى (مجاهد)، لأنه يمارس العبث في الحالتين، وسيطال العبث دارك.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف