تقدر جهات إسرائيلية متخصصة أن إسرائيل فشلت على الصعيدين الإعلامي والدبلوماسي في مواجهة الفلسطينيين، في حصيلة السنوات القليلة الماضية.
كُرّست منذ خمسينيات القرن الماضي إلى نهاية الثمانينيات صورة نمطية للتفوق السياسي والدبلوماسي الإسرائيلي، ناهيك عن التفوق العسكري الساحق، في المواجهة مع الفلسطينيين والعرب، وظلت هذه الصورة سائدة رغم الإنجاز العسكري المهم الذي حققه العرب في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، والنقاط الكبيرة التي انتزعها الفلسطينيون والعرب في السبعينيات على المسرح الدبلوماسي، من اعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وإدانة سياسات سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وتمسك المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة، بفلسطينية وعروبة الأراضي المحتلة عام 1967.
المكسب الكبير للفلسطينيين تحقق في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والتي يطلق عليها أيضا "ثورة الحجارة"، التي انطلقت في 8 ديسمبر/كانون الأول عام 1987، واستطاعت أن تحوز على تضامن عالمي منقطع النظير، ليس على مستوى تغير المواقف الرسمية للعديد من دول العالم التي كانت من الداعمين الرئيسيين لإسرائيل، وفي مقدمتها الدول الأوروبية الغربية، بل كان الأهم الحراك الشعبي العالمي الداعم للفلسطينيين حينذاك، ودخلت كلمة "انتفاضة" إلى قواميس كل لغات العالم، غير أن الكثير من المكاسب تبخرت بعد دخول الفلسطينيين في متاهة أوسلو، والتي كانت الانتفاضة أول ضحاياها.
باعتراف جهات دبلوماسية وإعلامية إسرائيلية متخصصة استفادت إسرائيل كثيراً خلال الحقبة الأوسلوية، حيث علق الفلسطينيون في وحل التكتيكات الإسرائيلية لإغراق المفاوضات في التفاصيل والجزئيات، وتحويل الاتفاقيات الموقعة إلى التزامات من جانب واحد مفروضة على الفلسطينيين، وفي غضون ذلك استطاعت إسرائيل أن تضاعف أعداد المستوطنين، ومساحات المستوطنات والبؤر الاستيطانية، في القدس الشرقية وباقي أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة عام 1967، كما استطاعت أن تحوّل الدفة الدبلوماسية والإعلامية لصالحها، بينما غابت إلى حد بعيد الديناميكية عن أداء المؤسسات القيادية، السياسية والإعلامية، في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية.
يكفي مثال واحد على الافتقار للديناميكية هو طلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، الفكرة طرحت على بساط البحث فلسطينياً منذ تعثر العملية التفاوضية عام 1999، حيث قام الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، بجولة شملت عشرات الدول لحشد المجتمع الدولي خلف هذه الخطوة المعطلة منذ عام 1948، وبالفعل أبدت أكثر من مائة دولة استعدادها لدعم دخول فلسطيني إلى الأمم المتحدة، واتخذت دول أخرى، غالبيتها أوروبية غربية، موقفاً لا يعارض بل يعمل على التسويف والتأجيل. وبقيت هذه الخطوة الفلسطينية معلقة بين أخذ ورد، إلى أن تم التوجه بالفعل للأمم المتحدة، وأصدرت الجمعية العامة القرار رقم (19/67)، بتاريخ 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، وقضى القرار بمنح منح فلسطين صفة "دولة غير عضو" في الأمم المتحدة، بعد أن استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لإسقاط طلب العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة.
شكّل القرار نكسة سياسية كبيرة لحكومة نتنياهو، إلا أن النكسة الأهم التي كانت تحاول أن تقلل منها هي عودة الحراك العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، واكتسابه هذه المرة طابعاً عملياً مؤثراً على عصب السياسة والاقتصاد في إسرائيل، مثل الدعوات لمقاطعة وعزل إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، من خلال أطر منظمة أهمها حركة (BDS)، وهي اختصار لـ" حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات"، التي بدأت عام 2005، وصارت اليوم واحدة من أكبر مصادر قلق الحكومة الإسرائيلية.
وما كانت حملات حركة (BDS) لتنجح لولا انخراط فئات واسعة فيها، في البلدان الأوروبية الغربية، وحتى في الولايات المتحدة على مستوى الجامعات، بفعل عودة إسرائيل إلى مربع خسارة المعركة الإعلامية، بالإضافة إلى خسارتها لنقاط دبلوماسية مهمة، دخول فلسطين الأمم المتحدة بصفة "دولة غير عضو" وعضوية "محكمة العدل الدولية" في لاهاي، وإدانة الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، التي لم تستطع واشنطن التغطية عليها، إذ أضطر وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، باتهام الجنود الإسرائيليين بارتكاب عمليات إعدام ضد الفلسطينيين.
إلا أن حكومة نتنياهو لم تتعلم الدرس، بضرورة تغيير نهجها السياسي، والنزول عند أسس وشروط إعادة بناء المفاوضات على المسار الفلسطيني كي تكون منتجة، باتجاه تسوية شاملة ومتوازنة، وبدلاً من ذلك عادت الحكومة الإسرائيلية للمراهنة على شن حملات إعلامية لإبعاد الأنظار عن ممارسات سلطات احتلالها، وتركيزها على ما تسمية "مخاطر الإسلام الراديكالي"، متناسية أن الاحتلال الإسرائيلي هو واحد من أسباب هذه الظاهرة وازدياد تطرفها.
وقد لا يطول الوقت حتى تكتشف حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل أنها لن تستطيع كسب المعركة الإعلامية بتغطية ممارسات جنودها ومستوطنيها بغربال، وأن لعبة حرف الأنظار باتت مكشوفة ولا تنطلي على أحد.
عامر راشد

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف