- تصنيف المقال : اراء حرة
- تاريخ المقال : 2016-04-23
إذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد استمدت شرعيتها ومكانتها التمثيلية، من التوافق الوطني بين قوى وتيارات الشعب الفلسطيني، ومن نضالها المتواصل وحصولها على شرعية سياسية وقانونية وثورية في آن مكّنتها من التمتع بألية قانونية كحركة تحرر وطني . فان القرار الصادر عن الرئيس محمود عباس بوقف تحويل المستحقات المالية عن فصيلين وركنين اساسيين من اركان منظمة التحرير (الجبهتان الديمقراطية والشعبية لتحرير فلسطين) بما يؤشر الى مخاطر تتجاوز المسألة المالية لتمس المكانة التمثيلية للمنظمة وللشرعية التي تكرست على مدار سنوات النضال الفلسطيني..
فقرار الرئيس جاء تتويجا لسلسلة من التحولات والتغييرات السياسية المدمّرة التي عملت بعض الاطراف الاقليمية والدولية ادخالها على منظمة التحرير وبنيتها. جزء من هذه التغييرات فرضتها ظروف موضوعية لكن الجزء الاكبر منها جاء بسياسة واعية ومدروسة لابقاءء منظمة التحرير جسم بلا فعالية وبلا قدرة على التأثير في الاحداث. ويمكن ملاحظة ذلك منذ اللحظات الاولى لعملية التسوية التي افردت هامشا تم التعاطي معه وفقا لأجندة امريكية واضحة. فالمفاوضات السرية التي انتجت اتفاق اوسلو تمت باشراف القيادة الرسمية للمنظمة من وراء ظهر ائتلاف فصائل منظمة التحرير وكسر قرارات المجلس الوطني (البرلمان) الفلسطيني، وهي التي وقعت على إتفاق "إعلان المبادئ" (13/9/93)، وكذا الأمر بالنسبة للإتفاقيات اللاحقة. وبقيت م.ت.ف. هي الطرف المعني بالمفاوضات حتى ولادة (خارطة الطريق الدولية الرباعية ابريل/ نيسان 2003)، التي نقلت دفة "الحكم" من يد المنظمة إلى يد السلطة الفلسطينية.
لكن عملية الإنتقال هذه لم يولد فجأة، بل سبقته سلسلة من التداعيات السياسية المدمرة، أملتها آليات العمل داخل ما يسمى النظام السياسي الفلسطيني. رغم أن العلاقة كانت تقوم نظرياً بين م.ت.ف. والسلطة، على أن الأولى هي المرجعية العليا للثانية، ورغم أن المنظمة، كموقع تمثيلي وقانوني، أمّنت الغطاء للمفاوضات، إلا ان واقع الحال كان يسير الى عكس ذلك. فآليات العمل اليومي كانت تهمّش المنظمة لصالح تعزيز اوضاع السلطة.. وفي هذا السياق لعبت مجموعة من من العوامل دوراً في إحداث هذا الخلل: فرئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة هو نفسه رئيس دولة فلسطين ورئيس السلطة وهو الرقيب والآمر الناهي في كل صغيرة وكبيرة ولا فواصل بين صلاحياته الواسعة، وهذا عكس النظام الاساسي لمنظمة التحرير (ائتلاف وطني شامل وقرارات هي الأساس السياسي والقانوني الملزم لرئيس وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير)، وبالتالي لا سلطة لاي هيئة على مراقبته او محاسبته على اعماله. وبالتالي يملك هامشاً واسعاً من المناورة يمكّنه من تهميش كل الهيئات لصالح دوره المنفرد.
ومن العوامل التي لعبت دوراً في تهميش المنظمة لصالح السلطة أن "الثقل المالي" إنتقل إلى رئاسة السلطة ومجلس وزرائها ومعها كافة الأجهزة الأمنية والإدارية والخدمية في الضفة وغزة، بينما كانت م.ت.ف. تشكل كياناً معنوياً تسلل الشلل إلى مؤسساتها وإتحاداتها الشعبية والمهنية حتى صارت هيكلاً يتآكله القدم ويعشش في أركانه الفراغ والبطالة السياسية وفق سياسة واعية مارستها قيادة السلطة، لدرجة ان جميع الهيئات المركزية في المنظمة سواء على مستوى المجلسين الوطني والمركزي او على مستوى اللجنة التنفيذية لا يعرفون شيئا عن موازنات منظمة التحرير التي عادة ما تصرف وتنفق بقرارات ارتجالية وفردية. ورغم التأكيدات اللفظية على أن المنظمة هي المرجع للسلطة، وأنها هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وأن السلطة معنية فقط بالشأن الفلسطيني في الضفة والقطاع ، إلا ان آليات العمل اليومية بقيت تفعل فعلها في نقل مركز الثقل إلى السلطة، وفي تهميش م.ت.ف. ودورها التمثيلي.
شهدت هذه العملية إنعطافة ذات دلالة مع التطويرات التي أدخلت على النظام السياسي الفلسطيني، تمثلت بإحداث منصب لرئيس الوزراء، منفصل عن منصب رئيس السلطة بكل ما تطلبه ذلك من تعديلات للقانون الأساسي للسلطة الفلسطينية. أدى ذلك إلى تقليص صلاحيات رئيس السلطة ومنح صلاحيات مستقلة لرئيس الحكومة ووزرائه، وذلك في سياق ما سمي بإدخال إصلاحات على أوضاع السلطة الفلسطينية بهدف بلورة إطار سياسي فلسطيني أكثر استجابة للضغوط الأميركية والاسرائيلية. وقد شجع أيضاً مثل هذه التوجهات أطراف دولية كثيرة، لأن إضعاف م.ت.ف. يعني إضعاف الكيانية السياسية للتجمعات الفلسطينية في الشتات، الأمر الذي يسّهل على مفاوضات الحل الدائم، البحث عن حل يقوم على التوطين والتأهيل لقضية اللاجئين خارج منطوق القرار 194، وهذا ما لا يتناقض مع مواقف الرئيس محمود عباس وفقا لمواقفة المتعددة.
على خلفية إتفاق أوسلو وفي ضوء القرار بتشكيل السلطة الفلسطينية، طرأ تغيير كبير على النظام السياسي الفلسطيني وبرزت إلى الواجهة معطيات فرضت نفسها بقوة الأمر الواقع وتعززت بنزوع إحكام القبضة على القرار السياسي الفلسطيني وتهميش دور القوى الأخرى وتأثيرها. ولم يكن صدفة أن اتفاقية اوسلو وفّرت لرئيس السلطة صلاحيات واسعة اقرت جميعها في ظل حالة من الإنقسام السياسي الفلسطيني الحاد أدى إلى إنفراط عقد الائتلاف الوطني في م.ت.ف، ما أدى إلى إضعاف موقع منظمة التحرير كمؤسسة تمثيلية.
هذه التطورات في العلاقة ما بين منظمة التحرير "كحركة تحرر وطني" والسلطة الفلسطينية التي لها وظائف محددة حددت في عدد من الاتفاقات قاد موضوعيا الى انقلاب على مستوى استراتيجية العمل الوطني الفلسطيني. فعلى صعيد م.ت.ف أصاب التصدع أوضاع المنظمة وقيادتها الرسمية التي اخذت تبحث لنفسها عن مكان في عملية التسوية. بعد ان ساد اعتقاد لدى صفوف واسعة من هذه الفئة بأن الادارة الاميريكة باتت قادرة على فرض رؤيتها بمعزل عن حقوق ومصالح شعوب المنطقة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني..
حاول مهندسو اتفاقات اتفاق اوسلو ايجاد الوسائل الكفيلة بتمكين السلطة الناشئة من شق طريقها دون عقبات سياسية وشعبية، فتم اللجوء الى تجديد الشرعية عبر اللجوء لانتخابات اعتمدت أنظمة وقوانين كرست للنظام الجديد السلطة الفردية في القرار والقيادة. وهذا ما يمكن ملاحظته أن النظام السياسي الذي قام شكل تجاوزا صريحا على «إعلان الاستقلال» (15/11/88) باجماع المجلس الوطني الفلسطيني لكل الفصائل والاتحادات الوطنية الذي اشار بوضوح إلى النظام الديمقراطي البرلماني كسمة ملازمة للنظام السياسي الفلسطيني. فقد كان نظاما يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات واسعة (فاقمت من نزوع النظام التسلطي تلك الإلتزامات المترتبة عليه بفعل الإتفاقات المعقودة)، ولا يخضع لأية مساءلة من أية جهة كانت، تشريعية كانت أو تنفيذية.
ان صيغة العمل السياسي المؤطرة باتفاقات اوسلو وبعملية تفاوضية هي الاطول في التاريخ لم تعد تجدي نفعا، بحيث باتت بنظر الكثيرين عنوانا لتصفية القضية الفلسطينية بشكل تدريجي. وبالتالي فان الواقع السياسي الراهن اصبح يلعب دورا معرقلا امام امكانية اي عملية نهوض مستقبلية تسعى الى التغيير، وإذا لم يأت التغيير من داخل الحالة السياسية، خاصة على مستوى السلطة والمنظمة، فان ثقل المعاناة سيفرض تغييرا من خارجها.. لأن النظام السياسي الحالي غير قادر على استيعاب اية تغييرات، لأنه مصمم على مقاس عملية تفاوضية استنفذت اغراضها وانتهت مفاعيلها السياسية..
ان استعراض هموم ومشكلات التجمعات الفلسطينية المختلفة، يفرض على القيادة السياسية نظرة اكثر شمولية في التعاطي مع واقع هذه التجمعات خاصة وان بعضها عرضة لمخاطر وطنية كبرى تتخطى الوقائع الجغرافية لتطال المشروع الوطني برمته .. من هنا تكمن اهمية الدعوة لتجديد بنية ومسار حركتنا الوطنية في اطار صيانة المشروع الوطني التحرري..
إن ما يجب ان يحكمنا ليس قوانين "السلطة والمعارضة" ولا قوانين "الاكثرية والاقلية"، بل يجب على الكل أن ينخرط في إطار السياق العريضلحركة التحرر الوطني، وضد التناقض الرئيسي الجامع للجميع، أي ضد الاحتلال والاستيطان للأراضي المحتلة.. واي صراع على السلطة من خلفية الوهم اننا تجاوزنا مرحلة التحرر الوطني فلن يقود سوى الى الهيمنة والى فساد الأجهزة والمؤسسات، وايضا إلى الانقسامات التي لا زالت تتوالى فصولاً سياسية ودامية.
تدلل الخبرة التاريخية بأن الثورات وحركات التحرر الوطني التي ابتعدت وتراجعت عن قوانين النصر الأساسية المذكورة، حصدتالكثير من التراجعات والكوارث، ووصلت إلى النفق المسدود وإلى الانهيار والفشل التام، وفي تاريخالحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومنا، وفي تاريخ حركات التحرر العربية،أمثلة موجعة ومأساوية.
رغم ان الخيار الاستراتيجي بالنسبة للقيادة الرسمية الفلسطينية ما زال هو المفاوضات، لانها لا تستطيع بحكم تركيبتها وتوازناتها ان تعتمد خيارا آخر.. او ان تضع خيار الوحدة الوطنية بنفس الاولوية التي تطرح فيه قضايا اخرى اقل شأنا .. او ان تلجا الى خيار الوحدة الوطنية وتطوير النظام السياسي الفلسطيني بما يمكنه من حمل اعباء اي مواجهة مستقبلية. فان ذلك لا يجب ان يحجب الانظار عن ضرورة النضال ايضا من اجل تطوير النظام السياسي الفلسطيني بمختلف تشكيلاته، دون ان يغيب عن بالنا انه وفي الصراع ضد الاحتلال وبالتداخل معه، ثمة صراع يدور حول إعادة صياغة بنية مؤسساتنا الوطنية ووظائفها. فالصراع اذا هو من اجل استعادة منظمة التحرير بتكوينها الائتلافي التوافقي وبرنامجها الوطني الذي يعكس هموم وتطلعات الكل الفلسطيني.