- تصنيف المقال : تراث فلسطيني
- تاريخ المقال : 2016-04-30
عــ48ـرب/ ضياء حاج يحيى
عندما تلتقي الهواية بالموهبة، وحب التراث والتاريخ، تنتج فناً أنيقاً راقياً له رائحة جلية، تأخذك بسِحرها إلى عبق التاريخ الجميل، تاريخ الأجداد الصالحين الكادحين المُناضلين على مر الأجيال، من خلال رحلة قصيرة في متحف الحاج خليل بلعوم (أبو جمال) من مدينة الطيبة ابن ال86 ربيعاً، والذي يحتوي على كنز لا يفنى، من ذكريات قيّمة قديمة تراثية، وتحف فنية، ليتحول البيت الصغير المتواضع إلى متحف تراثي فلسطيني، يسحب من يجول فيه إلى أزمنة أخرى قديمة لم تعد حاضرة.
منذ أكثر من ستين عاماً، يمارس الحاج خليل هوايته في جمع التُحف التراثية القديمة، وكان يصول ويجول البلاد البعيدة والقريبة ويستغل كل فرصة، من أجل أن يجمع كل ما يرى فيه قيمة ليقتنيه تحفة أثرية في بيته إلى أن أصبح لديه ما يقرب من الـ4000 قطعة من التراث القديم، فقد زار غزة والمدينة ومكة، والدول العربية بحثاً عن تحف تراثية، ومن كل مكان له قطعة وحكاية، حتى أصبح يأتيه المُعجبون من كل حدب وصوب، سُواح وطلاب مدارس يستضيفهم في المضافة التي بناها خصيصاً لهم، وعلى حسابه الخاص، ليستنشقوا هواء نقيا مفعما بتاريخ مُفخر، دوين أي مُقابل.
كان يعمل الحاج خليل بلعوم، ابن مدينة الطيبة، في مجال ترميم البيوت والآثار وصنع قطع الفخار، وسبق له أن عمل مع الكثير من الفنانين والنحاتين في هذا المجال من شتى البلاد، الأمر الذي أثار لديه الفُضول لتعلم هذه المهنة، وأعطاه خبرة فيها، حتى أصبح موهوبا لدرجة أنه عمل على صنع أباريق ضخمة من فُخار تزين مدخل بيته في المدينة.
ويسترجع بلعوم ما حدث معه منذ أربعين عاماً، حينما دعاه أحد النحاتين المشهورين في البلاد آنذاك، وطلب منه أن يُرمم له بيتاً بحيث يبدو قديما، وذلك نظرا لخبرته في هذا المجال. وبدأ الحاج خليل في ترميم البيت، على طريقة الأجداد، دمغ التبن بالطينة، وزخرفة الحجارة، وتلميعها، حتى بدا هذا البيت وكأنه يعود إلى سنوات ما قبل الألفية الأولى.
وبعد أن انتهى من تجهيز البيت، جاء الباحث المختص بالآثار والبيوت القديمة، وقدر أن هذا البيت الذي أتم ترميمه قبل أسبوع في حينها، يقدر بعمر يزيد عن ألف عام، ومن هنا زاد فضول الحاج خليل بجمع الآثار وقطع الفخار، وجمع التحف القديمة النادرة، لتحفظ تاريخ الماضي لأجيال الحاضر والمستقبل.
عند تجوالك في متحف الحاج خليل ترى الكثير من التُحف التي انتهى عصرها منذ سنين، واستبدلت بأخرى حديثة، وتراها فقط في الحلقات والمسلسلات. وفي هذا المتحف تراها حقيقية ملموسة بين يديك، وتتعجب حينها، من ذكاء الاختراع ودهاء الفكرة، مثل الصاع والشربة والزير والجرة والسراج والسرج (الحلس)، ومثل القنديل والكربة، ومثل البكرة والقفة، ومثل الهون والجاعد، وجمال الأزياء العربية مثل السروال والقمباز والحطة والعقال والدشداشة.
أغراض نادرة وجميلة، تُجسد التاريخ الفلسطيني العريق، وعند سؤال الحاج خليل عن أكثر شيء يهواه من بين ال 4000 قطعة التي جمعها طيلة مسيرته، وترقد في هذا المتحف، أشار إلى قطعتين: القطعة الأولى كانت قطعة قماش قد تصلبت من مرور السنين، وعليها أكثر من ثلاثين مُفتاحا من 'مفاتيح العودة'.
يقول الحاج خليل بنبرة حزينة، إن هذه القطعة هي الأحب إليه، لأن لها أصحاب قد تركوا مفاتيح بيوتهم كُرهاً، وتمتم بصوت هادئ، هي هنا صامدة، علّ يوما ما يرجع أصحابها ويأخذونها.
أما القطعة الأخرى فكانت صاع الملك يوسف عليه السلام، وهي القطعة الأقدم لديه، والتي ذكرت في القرآن الكريم، ويقدر عمرها بمئات السنين وأكثر. بالإضافة إلى مطحنة بدائية لإعداد القهوة.
وتجد أيضاً السبحات النادرة، إلى جانب المئات من التحف الشرقية والأحجار النادرة، ومفاتيح العودة والمفاتيح الضخمة لبوابات البيوت العتيقة والخواتم القديمة، وأدوات المطبخ الفلسطيني بكل الأواني والمستلزمات، وفيه الملاعق الخشبية والكؤوس من النُحاس والطناجر من كل الأحجام، إضافة إلى صواني القش وخوابي زيت الزيتون، والأواني الفخارية وزجاجات تخزين البقول والحبوب، وعلى الجدران تتدلى أدوات الزراعة من محاريث خشبية ومعدنية كان أجدادنا يستخدمونها في الحقول.
وفي نهاية حديثه، قال إن هذا المتحف هو تجسيد لتاريخ عريق، يسكن في بلد عريق، له تاريخه وتراثه وآثاره، وفي أروقته عبق لماض لم يعُد كائنا، وهو مفتوح طيلة أيام الأسبوع، وفي أي وقت شاء الزوار يمكنهم أن يطرقوا بابه فيحتضنهم.
يشعر الحاج خليل بالغضب حين يسألونه عن فاتورة الدخول، حيث يؤكد في كل مرة أن هدفه هو الحفاظ على التراث الفلسطيني العريق.