لحظة انفجار حقيبة الحفيد "عبد الحميد أبو سرور" في الحافلة رقم "12". تطايرت إحدى الشظايا لتستقر في يد أم الشهيد "أزهار".
الشظية حارقة وأكبر من قدرة الأم الشابة على احتمال لسعها، ودوي الانفجار المفاجئ يتردد صداه مقتحماً الصدمة. ولا يمكنها، بحكم تكوينها المعرفي كمعلمة وتربوية، تجاهل حاجتها لمراجعة تسلسل الأحداث وصولاً إلى فقد فلذة كبدها. وعلى عادة الأمهات في علاقتهن مع الأبناء تشكو أزهار قَرْسَ الضمير.
تستفيض الأم في محاضرتها، تجيّر ارتداد دوي الانفجار إلى المحيط الفلسطيني، تشرع في عملية مساءلة متشعبة المستويات، مبتدئة بعتاب إنساني لنفسها عن حكمٍ على ابنها بالطفولة وعدم التحول إلى مرتبة رجل، انه ولد تسحب الأغطية على جسده في الليل. تقول "لقد أخطأت التقدير"، وتسقط دمعة ساخنة تختصر المشاعر والانفعالات والأحاسيس.
دائماً كما في جميع حكايات الموت، يتذكر الجميع اللحظات الأخيرة للراحلين على عجل؛ كأحد الأفعال الدَّالة على إطلاق الموت صافرة الإنذار، وفي استشهاد الأبناء وخاصة في خيارات الموت المبيَّت، ستتذكر الأُم اللحظات الأخيرة مع ولدها. تشبع التفاصيل تحليلاً وتقييماً ومراجعة، ودائماً كما العادة لدى الأمهات؛ يحملن أنفسهن إثم عدم التقاط اتجاه ومغزى المؤشرات.
لم تفهم "أزهار" مؤشرات اللحظات الأخيرة التي جمعتها بـ "عبّود"، لم تفكّ لواقطها معاني الشيفرات الصادرة في حينها. لكنها الألغاز تصبح مفهومة بعد انفجار الحكاية، ستعرف الأم الغارقة في فحص الشريط المسجل على شبكيتها.. لماذا لم يسمح أن تلتقي عيناه بعينيها. كان يتحدث معها بينما يلتهي في هاتفه ومداعبة إخوته. لم ينظر لها مباشرة..كان يخشى على نفسه الضعف أمام عيونها..
تذهب أزهار أبو سرور في بحثها إلى مسؤوليتها الجزئية ومسؤولية الكل الفلسطيني عن روح ابنها وأرواح الشباب، ستقذف الشظايا على المعزيات وتأخذهم معها في حوار صعب حول استثمار التضحيات التي يقدمها الشباب.
ستقول، إن "عبود" لم يضع في حقيبته الملابس والمقتنيات الشخصية، وطن الابن لا يختبئ في حقيبة، بل أودع حقيبته مفتاح بيت الأجداد في "بيت نتيف".
تكبر دائرة المراجعة. لقد رمت "أزهار"، ابنة الشهيد عبد الحميد منذ خمسة وثلاثين عاما وأم الشهيد "عبد الحميد" منذ الانفجار الكبير، حجرها. وما بين الحدثين، كان الاقتراب التدريجي ويوماً بعد يوم من نقطة العجز، لقد أصبحت الحركة الوطنية مشلولة الحركة والمبادرة، وفقدت الكثير من مزاياها ومسؤوليتها وتمثيلها.
لقد أنجبت "أزهار" ابنة اليسار ولداً يذهب إلى تنظيم عقائدي، تربيه على حب المقاومة وتعصر نفسها كي يكون رجلا منتميا لبلده. ومن أجل قناعتها بوحدة الألوان من أجل الوطن، عملت ما تستطيع ليكون بيتها مكاناً يتسع للجميع. فيشارك "عبّود" في ذكرى انطلاقة جميع الفصائل، لكنه يخصص مساحة على جدار غرفته يعلق عليه راية جده، ويكون جاهزاً لحمل راية وحقيبة يعبّر فيها عن التحاقه بمرحلة مختلفة لم تتضح معالمها.
لقد رمت أزهار" حجرها في المياه الفلسطينية المتلاطمة لتجدِّد الحوار الدائر؛ تضيف حسرة قديمة بحجم خسارة الفقد غير المستثمر. لقد سخِرت بابني ولم آخذه وأحلامه على محمل الجد، وكذلك فعلت القيادة، إن كان ثمة قيادة؛ لم تأخذ الشباب برمتهم على محمل الجدّ.
خرجت أم الشهيد من صدمتها مسرعة نحو التأمل والتقييم والاستخلاص. في البداية إقرار برجولة الولد الذي غادر بفضل مدرستها وانفتاحها على الحوار؛ المرحلة الهلامية، وبفضل دعواتها كَبُر أكثر مما تمنت، وأصبح رجلاً يملأ "ألبوم" العائلة وتاريخها.
ومع كل هذا، وبينما كانت أم الشهيد تدير حوارا وطنيا واعيا، كان البعض يحرفه بسطحية "مايكرونيزية" متناهية الصغر، "منذ اليوم عليك وضع الغطاء على رأسك" كتبوا لها على الفيسبوك، فازداد لسع الشظايا بين يديها.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف