الوضع الحالي في السياق الفلسطيني هو في التحليل الصائب مراوحة في المكان تترافق مع «ارهاب» من هذا النوع أو ذاك: في العام 2002 كان «ارهاب الانتحاريين» وفي 2016 «ارهاب السكاكين». ولا يرتبط «الارهاب» في أساسه بوجود او عدم وجود مسيرة سياسية. فيحيى عياش، من عظماء نشطاء «الارهاب» الفلسطيني، عمل باقرار من ياسر عرفات بينما كان اسحق رابين وشمعون بيريس يديران مفاوضات مكثفة مع الفلسطينيين. وفي اطار مغسلة الكلمات التي انتهجتها في حينه وسائل الاعلام المتعاطفة مع «اوسلو»، كان يسمى المغدورون في ذاك الوقت «ضحايا السلام» – ولكن هذا كان «ارهابا» صرفا. يتبين أنه حتى عندما يكون هنا هدوء فانه يكون منوطا اساسا بقدرة المخابرات والجيش الاسرائيلي على احباط «الارهاب» وليس بأي شيء آخر.
لا غرو انه بسبب المراوحة في المكان، دون أي داع للتفاؤل بالمستقبل، نشأ لدى غير قليل من الناس في اسرائيل احساس بالضائقة. فاليأس من الوضع وانعدام القدرة على الاشارة الى سبيل جيد لتغيير حقيقي وواسع يؤديان الى عرض اقتراحات غايتها الدفع الى الامام بافكار مختلفة، كل وذوقه. وكل شيء يتم تحت غطاء «خطوات جزئية كرد مناسب على المصاعب الحالية».
غير أن الاطلاع التفصيلي على هذه الاقتراحات يشير الى أنه ليس فيها أي حل حتى ولا لمشكلة واحدة. ولا حتى تخفيف عن أي صعوبة. وفي واقع الامر، كل طرف يحاول تحقيق فكره بحجج عابثة.
تذكرنا هذه الاقتراحات بقصة عن بريطانيا، حيث تقرر تغيير اتجاه الحركة في الطرقات ليكونوا مثل الجميع. ولما فهم بأن من الصعب للغاية الوصول في خطوة واحدة الى تغيير شامل للطريقة، اقترحت عدة جهات البدء «بخطوات جزئية»، وفي المرحلة الاولى تسير الشاحنات فقط في الجانب الأيمن من الطريق. هذه هي طبيعة الاقتراحات الجزئية، التي هي في معظمها احادية الجانب ايضا – ضارة ولا تحقق شيئا.
مؤيدو الدولة الفلسطينية يقولون انه على الرغم من أنه لا يمكن الوصول الى حل كامل، ينبغي الاقتراب اليه بخطوات مدروسة حتى بلا اتفاق. ينبغي القيام بهذه الخطوات لأن مجرد تنفيذها يخدم اسرائيل. يبدو ان من يقترح ذلك مستعد ليدفع ثمنا باهظا جدا مقابل تقدم قليل في الاتجاه الذي يؤمن به، أي نحو دولة فلسطينية مستقلة.
هم يراهنون. وهم سيدفعون كامل الثمن الداخلي، سيمزقون المجتمع الاسرائيلي ولن يحققوا شيئا – لا في الجانب الدولي ولا من الفلسطينيين، الذين سيواصلون بقوة اكبر الكفاح ضد ما تبقى من احتلال. فضلا عن ذلك، سيتعاظم «الارهاب» مثلما تعاظم بعد كل انسحاب اسرائيلي، هذه المرة بلا الفضل الذي يوجد في حدود متفق عليها بعد الانسحاب، إذ ستكون هذه خطوة من طرف واحد الى خط عديم المعنى الدولي. وحتى قبل الانسحاب من غزة (الطرد) شرح المؤيدون للخطوة بانها ستكسب اسرائيل تعاطف العالم، الامر الذي كان ربما صحيحا لبضعة اشهر، بالكاد.
اقتراح الطرف الآخر، «لاحلال القانون الاسرائيلي او السيادة على مناطق «ج» دون ان يتقرر كيف ستبدو التسوية في نهايتها»، يعاني من الضعف ذاته بل ربما بقوة اكبر. فالاثمان ستكون باهظة للغاية في كل منظومات علاقات اسرائيل مع العالم، الذي سيدفع بعضه نحو تصريحات بل قرارات عملية اكثر حدة مما يوجد اليوم، لدرجة تحول المقاطعة ضد اسرائيل الى مقاطعة رسمية. وفي الوقت ذاته، من ناحية عملية، ستعطي هذه الخطوات القليل جدا للاسرائيليين الذين يعيشون في المنطقة، ان لم تضرهم.
هكذا، مثلا، من السهل على المخابرات الاسرائيلية ان تعمل بالذات في منطقة يكون فيها صاحب السيادة هو القائد العسكري وليس الكنيست، فاحدى المصالح الاكثر اهمية لليهود الذين يعيشون في هذه «المناطق» هي الامن، الذي يعتمد في معظمه على قدرات المخابرات. ينبغي أن نأخذ بالحسبان الضرر الكبير في مجال آخر: فبعد سن «قانون القدس»، كانت لاسرائيل حجة قوية تجاه العالم. القدس، كما زعم، هي عاصمة اسرائيل، وليست «مستوطنة» اخرى، وعليه لا يمكن شجب اسرائيل على كل توسع في القدس، وكأن هذا بناء على تلة في «يهودا» و»السامرة». ان احلال القانون الاسرائيلي في المناطق «ج» سيمحو هذا الفرق، الذي كان صعبا الدفاع عنه حتى في الوضع الحالي.
فضلا عن ذلك، فان العالم لن يشتري تفسيرات اسرائيل. فالكل سيدعي بان الغاية الحقيقية من اقتراحات الضم واحلال القانون هي تصفية كل احتمال للمفاوضات المستقبلية. وهذا عمليا هو قرار بدولة ثنائية القومية، دون الاعلان عن ذلك، إذ من الواضح أنه بعد مثل هذه الخطوات فان احدا في الجانب الفلسطيني لن يدخل في مفاوضات مع اسرائيل. اذا كنا نريد دولة ثنائية القومية، فيجدر الاستعداد لذلك ومن الصائب قول ذلك بشكل واضح وعدم الزحف نحوه في ظل اخفاء الهدف.

العمل من اجل الإجماع
عندما يكون المرء على شفا الجرف، فان المراوحة في المكان افضل من الخطو الى الامام. والامر صحيح دوما وصحيح باضعاف اليوم، عندما يكون الشرق الاوسط في عاصفة فوضوية بلا سيطرة، وسياقات التغيير فيه تؤدي في قسم بارز من الحالات الى الوقوف على شفا انهيار (ولكن ربما ايضا نحو فرص تاريخية من التعاون الذي كان متعذرا حتى الآن).
من الواضح على نحو ظاهر أن كل مفاوضات جدية مع الفلسطينيين ستفشل في الزمن القريب بسبب الفوارق بين الطرفين، وهذا ليس الزمن لتجربة عديمة الجدوى ستضر بمجرد فشلها. في ضوء هذه الظروف، ينبغي ان نفضل الآن تأجيل العلاج الجذري، الذي يفترض به أن يؤدي الى اتفاق شامل على اقامة دولة فلسطينية مستقلة. ولكن هذا ليس مدعاة لاتخاذ خطوات احادية الجانب تفاقم الوضع.
بدلا من ذلك ينبغي التركيز، فضلا عن الجهود لتحسين شروط معيشة الفلسطينيين، على التفكير في ما هو صائب عمله بعد أبو مازن، الذي لا بديل معروفا ومناسبا له، لفهم الاسباب لموجة «الارهاب» الاخيرة وكيفية تلطيف حدة دوافع «الارهاب» الشعبي. من المهم للغاية ان نجد خطوات تخفف عن اسرائيل المواجهة مع الاجواء المعادية في اماكن مختلفة في ارجاء العالم. قسم من هذه الاجواء يتغذى من الادعاء بان اسرائيل لا تقول الحقيقة حين تعلن عن رغبتها في المفاوضات، إذ في الوقت ذاته تغلق، من خلال البناء في المستوطنات، كل خيار لمفاوضات مستقبلية.
هذا ليس وضعا بسيطا ولا توجد حلول سهلة، ولكن يوجد مبدأ حيوي يجب أن يوجه كل خطوة: يجب ان نختار سبيلا يكون حوله اجماع واسع قدر الامكان داخل المجتمع اليهودي في اسرائيل. حجم الاجماع أهم من تفاصيل الاقتراح، وذلك من اجل الحفاظ على صمود اسرائيل وقدرتها على مواجهة التحديات الصعبة في المستقبل.
الخطر الاكبر في تحقيق اقتراح لا يأخذ بالحسبان فوارق النهج الشرعية في اوساط الجمهور هو خلق شرخ في شعب اسرائيل. من أجل منعه من الافضل التخلي عن الكثير من المبادئ المهمة، إذ تكاد كلها تكون أقل اهمية الآن من زيادة قدرة اسرائيل على النجاح في الاختبارات المقتربة.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف